الأخبار

الثلاثاء، 26 فبراير 2013

مسألة: القرآن كلام الله غير مخلوق [من شرحي على الحائية]

الحمد لله وبعد هاكم جزءا من شرحي على الحائية لابن أبي داود مقتبسا من شرحي المسمى بــ الدرر المرضية شرح المنظومة الحائية. واقتطعت منه جزء الكلام في مسألة خلق القرآن مفسحا المجال لكلام أهل السنة، مُطلا على المخالفين وأقوالهم والأدلة على بطلان مذهبهم جملة.
ـــــــــــــــــــــــ
باب: القرآن كلام الله غير مخلوق:
قال المصنف:
وَقُـلْ غَيْـرُ مَخْلِوقٍ كَلامُ مَليكِنا

(3)
بِـذَلكَ دَانَ الأتْقِياءُ وأَفْصحُــوا

وَلا تَكُ فِي القُرْآنِ بالوَقْفِ قَائِــلاً

(4)
كَمَا قَالَ أتْبَاعٌ لِجَهْمٍ([1]) وَأَسْجَحُوا([2])
ولا تَقُـلِ القُرآنُ خَـلقاً([3]) قـرأتَـهُ

(5)
فإنَّ كَـلامَ اللهِ باللفْظِ يُــوضَحُ([4])

الشرح:
قوله: ((وَقُـلْ غَيْـرُ مَخْلِوقٍ كَلامُ مَليكِنا ))
((قل)): فعل أمر مجزوم وعلامته حذف حرف العلة وهو الواو. والقول: يدخل فيه الكلام, والاعتقاد, والإشارة, كما قال ابن مالك:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم .... واسم وفعل ثم حرف الكلم.
واحده كلمة والقول عم .... وكلمة بها كلام قد يؤم.
أي أعم من الكلام واللفظ المجرد من الاعتقاد, أو الاعتقاد دون الإفصاح, فالمقصود أفصح واجهر واعتقد أن كلام الله غير مخلوق.
(( غير مخلوق )): الموجودات نوعان: إما مخلوق وإما غير مخلوق, فكل مخلوق حادث النوع والآحاد,([5]), أي أنه كان بعد أن لم يكن, فإذا كان القرآن مخلوقاً فيلزم من ذلك محاذير عدة منها:
1- تعطيل صفة الكلام عن الله تعالى في الأزل, إذ المخلوق لم يكن ثم كان, وقد قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}([6]): أي غير مخلوق, رواية عن ابن عباس([7])
2-   ثبوت ضدها وهو العجز – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا -.
3-  مخالفة لكتاب الله – تعالى – كما في قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}([8]), , وقال: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}([9]) فإذا كان مخلوقا فليس منزلا من عنده تعالى.
4-   حدوث إلوهية الله – تعالى - إذ كيف تكون {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }([10]) أهي مخلوقة؟
(( كَلامُ مَليكِنا )): أي الذي قاله الله بحرف وصوت, ومطلق الكلام يقتضي شمول كل ما تكلم الله به وعلى هذا المعنى يدخل فيه التوراة والإنجيل والقرآن وصحف إبراهيم وموسى وسائر ما تكلم به, أما إذا أراد الذي بين أيدينا فإنه يراد به القرآن فقط, وذلك أن الكتب التي قبله حرفت فأصابها الكلام المخلوق من عند غير الله, وذلك أن الله استحفظها أهل الكتاب, كما قال تعالى: { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ }([11]), فخانوا الأمانة فأصابها التحريف والتبديل قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}([12]), أما القرآن فقد تكلف بحفظه, {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}([13]).
والقرآن: كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه و سلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف))([14])
فقوله: ((وَقُـلْ غَيْـرُ مَخْلِوقٍ كَلامُ مَليكِنا)): فيه رد على المشركين والجهمية والمعتزلة, والواقفة, والأشاعرة والماتريدية والكلابية.
فأما وجه كونه ردا على المشركين: فذلك أن كل كلام غير كلام الله تعالى فهو مخلوق وكل مخلوق فيه اختلاف واضطراب, قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}([15]), وذو عوج, كما في قوله تعالى: {قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون([16]) قال أبو القاسم البغوي: ((وقيل: معناه لم يجعله مخلوقا وروي عن ابن عباس في قوله: "قرآنا عربيا غير ذي عوج" أي: غير مخلوق))([17]).
وكونه مذهبا للجهمية والمعتزلة:
فلأنهم يقولون: ((لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقضي تشبيها))([18]),
والكلام مما يتصف به الخلق فلا يجوز - عندهما - أن يتصف الله بالكلام الذي يتصف به الخلق, وهذا خلط عظيم إذ مجرد المشابهة لا تعني المماثلة والاتفاق في الأسماء لا يعني الاتفاق في المسميات, خاصة وأن المعتزلة أنفسهم يثبتون الأسماء لله - على طريقتهم من غير معنى - وللخلق أسماء أيضا, فيلزمهم نفي الأسماء أيضا.
وهذا الخلط دفع الجهمية أن تتوقف في إثبات الحياة لله تعالى فتقول: ((لا نقول: حي ولا ليس بحي)) فنفوا الإثبات والنفي فصار عدما كما قال ابن القيم في نونيته :
(( فأصاره عدما وليس وجودُهُ ... متحققا في خارج الأذهانِ ))
ووقع هذا الخلط أيضا بسبب اعتقادهم أن كل حادث مخلوق, وهذا خطأ فاحش, نشأ عن كونهم يستعملون المصطلحات الكلامية في فهم نصوص الكتاب, إذ الحق أن كل مخلوق حادث, وهذا متفق عليه بين الناس لا تنازع فيه, وليس كل حادث مخلوق, إذ الحادث أمر نسبي فقد يكون الشيء حادثا نسبة لغيره, ولا يعني ذلك أنه مخلوق, كما في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}([19])([20])
وأما وجه كونه مخالفا للواقفة: فهذه الطائفة هي التي تقول: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق, قال الدارمي: ((ثم إن ناسا ممن كتبوا العلم بزعمهم وادعوا معرفته وقفوا في القرآن فقالوا: لا نقول مخلوق هو ولا غير مخلوق], ومع وقوفهم هذا لم يرضوا حتى ادعوا أنهم ينسبون إلى البدعة من خالفهم وقال بأحد هذين القولين))([21]), وسيأتي مزيد بيان قريبا بإذن الله تعالى.
وأما الأشعرية والماتريدية: فقالوا: كلام الله كلام نفسي بدون حرف ولا صوت ولا يتجزأ ولا يتبعض، وليس فيه أمر ولا نهي، ولا خبر ولا استخبار، أما التوراة والإنجيل والقرآن فليس كلام الله على الحقيقة بل هو مخلوق وهو كلام الله مجازا لأنه دال على كلام الله النفسي.
واختلف الماتريدية عن الأشعرية بأن قالوا: كلام الله النفسي لا يسمع، فموسى وغيره من الأنبياء لم يسمعوا كلام الله وإنما سمعوا صوتا مخلوقا في الشجرة، أما الأشعرية فقد قالوا: كلام الله النفسي يسمع، فكلامهم هذا أبعد عن النقل والعقل لذلك قال كثير من الأشعرية إن معنى سمع كلام الله أي فهم كلام الله لعلمهم أن القول بسماع الكلام النفسي سفه وتغفيل.))([22])
يقول الإيجي: ((وهذا الوجه إنما يدل على أن الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته يكون صادقا))([23]).
وهذا الاعتقاد من أبطل الباطل: والرد عليه لا يحتاج إلى تكلف بل وإنما بذات الأدلة التي رددنا بها مذهب الجهمية, بل ويزاد عليها الأدلة العقلية الماحية لأدلتهم الواهية من أساسها ومن ذلك:
1-   أن الإجماع منعقد على أن الكلام: قول وفعل وحرف جاء لمعنى.
2-   أن الإلهام لا يسمى كلاما, كما أن حديث النفس لا يسمى كلاما باتفاق.
3- أن الكلام ينسب لناظمه, كما يأتي الشاعر فيأخذ المعاني من الأعرابي فينظمها فتخرج نظما وينسب حينها للشاعر وإن كانت المعاني للأعرابي.
4- أن الله تعالى وصف كلامه بأنه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}([24]), ولا يصح أن يوصف الكلام النفسي بكونه عربيا.
5- أن الله تعالى أنكر على المشركين قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ } فقال: { بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}([25]), فلم يقل المشركون: إنما يعلمه بشر معانيه, بل قال بعدها: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}([26]), فنسب الآيات إلى نفسه ولم ينسب المعاني فقط.
6- أنه مخالف لمذهب السلف, قال أبو حامد الإسفرائيني: (( مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله تعالى والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا فما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا ومنقوشا كل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين))([27])  
7-   أنه يلزمهم ما يلي:([28])
a.  أن يقولوا إن الله تعالى تكلم مرة واحدة, أي لما تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل تكلم بهم مرة واحدة في الأزل.
b. ولما قال القرآن قال: مثلا: (( قل هو الله أحد )) فقال: (قل) و (الله) و (أحد) مرة واحدة حتى لا يكون حادثا.
c.  أن هذه المعاني التي هي قائمة في ذات الله – على زعمكم – هي معان واحدة فمعنى القرآن كمعنى الإنجيل كمعنى التوراة.
d.   ولما تكلم بالآيات المنسوخة والناسخة قالها مرة واحدة.
e.  أنه لا فرق بين الأحاديث القدسية والقرآن الكريم, إذ ألفاظهما من إنشاء النبي – صلى الله عليه وسلم -.
f.  أن القرآن ليس منزلا من عند الله – ولذلك يقولون – إنما أخذه جبريل من اللوح المحفوظ ولم يسمعه من الله تعالى.
g.   أن الأوامر والنواهي والأخبار كلها واحدة.
h.   أن القرآن الذي بين أيدينا ليس كلام الله بل هو دال عليه وما بين أيدينا فهو مخلوق.
i.  أنه لا ينبغي أن يعامل القرآن المكتوب معاملة كلام الله فلا يعظم كتعظيمه إذ في ذلك مبالغة في تعظيم المخلوق.
j.  أن ينسب الإعجاز اللغوي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – أو إلى جبريل – عليه السلام – فإن الإعجاز واقع على اللفظ والمعنى, لا المعاني المجردة.
k. أنه ينفي عن الله صفة العلم, قال عبد الله بن أحمد: [ سمعت أبي رحمه الله، يقول: " من قال: القرآن مخلوق فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله عز وجل وفيه أسماء الله عز وجل "([29])
l.  قال شيخ الإسلام: [وهذه حقيقة قولهم فكل من قال القرآن مخلوق فحقيقة قوله أن الله لم يتكلم ولا يكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يحب فلما رأوا ما في ذلك من مخالفة القرآن والمسلمين قالوا إنه يتكلم مجازا يخلق شيئا يعبر عنه لا إنه في نفسه يتكلم فلما شنع المسلمون عليهم قالوا يتكلم حقيقة ولكن المتكلم هو من أحدث الكلام وفعله ولو في غيره فكل من أحدث كلاما ولو في غيره كان متكلما بذلك الكلام حقيقة وقالوا المتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام وهذا الذي استقر عليه قول المعتزلة وهم يموهون على الناس ]([30])  ([31])

ويقول شيخ الإسلام في معرض رده على الكلابية وأذيالهم من الأشاعرة: ((وأيضا فالكلام القديم النفساني الذي أثبتموه لم تثبتوا ما هو بل ولا تصورتموه واثبات الشيء فرع تصوره فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته؟
ولهذا كان أبو سعيد بن كلاب رأس هذه الطائفة وإمامها في هذه المسألة لا يذكر في بيانها شيء يعقل بل يقول: هو معنى يناقض السكوت والخرس, والسكوت والخرس إنما يتصوران إذا تصور الكلام فالساكت هو الساكت عن الكلام والأخرس هو العاجز عنه أو الذي حصلت له آفة في محل النطق تمنعه عن الكلام وحينئذ فلا يعرف الساكت والأخرس حتى يعرف الكلام ولا يعرف الكلام حتى يعرف الساكت والأخرس, فتبين أنهم لم يتصوروا ما قالوه ولم يثبتوه بل هم في الكلام يشبهون النصارى في الكلمة وما قالوه في الأقانيم و التثليث و الاتحاد فإنهم يقولون ما لا يتصورونه ولا يبينونه و الرسل عليهم السلام إذا أخبروا بشيء ولم نتصوره وجب تصديقهم ))([32])
قوله:
 (( بِـذَلكَ دَانَ الأتْقِياءُ وأَفْصحُــوا )):
(بذلك) أي بكون القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
(دان) مرت قريبا, وهي بمعنى اعتقد وتعبد.
( الأتقياء) جمع تقي, وهي من الوقاية, والتقوى: تجنب القبيح خوفا من الله([33]), ولعل المصنف آثر استعمال هذه اللفظة لحسن المناسبة, فالقبح يليق بأهل البدع, وترك القبائح وتجنبها من سمات أهل التقوى والدين وهم أهل السنة.
(وأفصحوا) أي أعلنوا وبينوا وما كتموا الحق, وقد قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ }([34]), ويدل على ذلك قول شيخ الإسلام: [وأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة من أن الله كلم موسى تكليما وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم وأن الله علما وقدرة ونحو ذلك ونصوص الأئمة في ذلك مشهورة متواترة حتى أن أبا القاسم الطبري الحافظ لما ذكر في كتابه في شرح أصول السنة مقالات السلف والأئمة في الأصول ذكر من قال القرآن كلام الله غير مخلوق وقال هؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا أو أكثر من التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام وفيهم نحو من مائة إمام من أخذ الناس بقولهم وتذهبوا بمذاهبهم ولو اشتغلت بنقل قول أهل الحديث لبلغت أسماءهم ألوفا لكني اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر لا ينكر عليهم منكر ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو حبسه ]([35])
قوله:
(( وَلا تَكُ فِي القُرْآنِ بالوَقْفِ قَائِــلاً ))
(( ولا تك )): لا هي الناهية, و(تك) أصلها تكون ثم حذفت الواو للجزم والنون للتخفيف, وقد مرت قريبا.
(بالوقف قائلا)
من التوقف, وهي طائفة تدعى الواقفة, وقد تسمى بالواقفة طائفتان:
1-  طائفة من طوائف الرافضة وذلك أنها توقفت في الأئمة إلى موسى بن جعفر ولم تتجاوز غيره([36])
2-  وطائفة قالت: إن القرآن كلام الله, وتوقفوا فلا يقولون هو مخلوق أو غير مخلوق, فسميت بالواقفة وهي أحظ بهذا الاسم من سابقتها, وهذه الطائفة هي المقصودة من قول المصنف, قال  (( وقال محمد بن شجاع الثلجي ومن وافقه من الواقفة إن القرآن كلام الله وانه محدث كان يعد إن لم يكن وبالله كان وهو الذي أحدثه وامتنعوا من إطلاق القول بأنه مخلوق أو غير مخلوق ))([37])
قوله:
((كَمَا قَالَ أتْبَاعٌ لِجَهْمٍ وَأَسْجَحُوا ))
((أتباع لجهم)) يريد بذلك الواقفة, والتبعية هنا لموافقة الجهمية في أصل أو حاصل القول ولا يعني ذلك أنهم أتباع له في أقواله أو مناصرون لهم, لأن جهما وأتباعه قالوا: القرآن مخلوق, ولم يتوقفوا, لكنهم في الحقيقة لما توقفوا عن القول بكونه غير مخلوق صار كالذي يقول: هو مخلوق, فإن الموجودات إما مخلوقا وإما غير مخلوق فإن لم يكن ذلك فهو كذلك, ولذلك قال الآجري: [ وأما الذين قالوا : القرآن كلام الله عز وجل ، ووقفوا ، وقالوا : لا نقول غير مخلوق ، فهؤلاء عند كثير من العلماء ممن رد على من قال بخلق القرآن ، قالوا : هؤلاء الواقفة : مثل من قال : القرآن مخلوق وأشر ، لأنهم شكوا في دينهم ، ونعوذ بالله ممن يشك في كلام الله عز وجل : أنه غير مخلوق ]([38])
(( لجهم )) هو أبو محرز جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع رأس الجهمية.  هلك في زمان صغار التابعين وما روى شيئًا لكنه زرع شرا عظيما، وكان قد درس على أستاذه الجعد بن درهم, ونسب إليه المذهب الجهمي لكونه هو الذي تولى كبر إشاعة مذهب شيخه الضال الذي استقى دينه من يهودي, وكان قتل جهم بن صفوان سنة ثمان وعشرين ومائة, قتله سلمة بن الأحوز, وتتلخص عقيدتهم فيما يلي:
- الإيمان عندهم هو المعرفة فمن أتى بالمعرفة - في زعمهم - ثم جحد بلسانه لا يكفر.
- الإيمان لا يتبعض, أي لا ينقسم إلى: قول وعمل واعتقاد.
- وعليه نفوا تفاضل أهله فيه, فإيمان الأمة كإيمان الأنبياء, إذ المعارف لا تتفاضل.([39])
- وافقوا المعتزلة في نفي الصفات وقالوا لا يجوز أن يوصف الله بما وصف به خلقه, وأثبتوا كونه قادرا خالقا فاعلاً, وذلك لأن المخلوق لا يوصف بشيء من هذا.([40])
- أثبتوا علوماً لله - تعالى - لا في محل.([41])([42])
 (( وأسجحوا )): في الرواية التي ذكرها السفاريني (وأسمحوا), وكلاهما بمعنى, فالسجَح اللين,([43]) فكأنهم لانوا وسمحوا بالباطل الذي اعتقدوه وجهروا به, وجاء قوله: (( وأسجحوا )) بمعنى اللين والسماح في مقابلة قوله (( دان الأتقياء)) فكان السماح واللين بالباطل في مقابلة التدين بالحق الذي كان سبيل الأتقياء المتجنبين لكل قبيح.
وهؤلاء – الواقفة - في حقيقة الأمر إنما هم كالجهمية فكل من لم يعتقد أن القرآن كلام الله غير مخلوق فهو كمن قال مخلوق, قال:
عبد الله بن أبي سلمة العمري المدني نزيل بغداد إنه سئل عن من قال: إن القرآن غير مخلوق, فقال إن الذي لا يقول إنه غير مخلوق فهو يقول مخلوق إلا إنه جعل هذه سترة يستتر بها))([44]) بل ذكر الأشعري في مقالاته أن أهل الحديث كفروهم: ((وقال قوم من أهل الحديث ممن زعم أن القرآن غير مخلوق أن قراءته واللفظ به غير مخلوقين وأن اللفظية يجرون مجرى من قال بخلقه، وأكفر هؤلاء الواقفة التي لم تقل: إن القرآن غير مخلوق ومن شك في أنه غير مخلوق والشاك في الشاك وأكفروا من قال: لفظي بالقرآن مخلوق.))([45]), وأفرد اللالكائي بابا ذكر فيه ما ورد من تكفير الواقفة ولما كانوا يكفرون القائل إن القرآن مخلوق وجعلوا الوقف كالقول فاستحقوا الحكم عندهم([46]) , و قال هارون يعني الفروي: " القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر، ومن شك في الواقفة فهو كافر، فقلت لهارون اللفظية؟ قال: هؤلاء مبتدعة ضلال "([47])
ويفصل الإمام أحمد فيفرق بين المجادل المنافح عن معتقده وبين من يعتقد ولا يدعو له, قال عبد الله بن أحمد: ((سمعت أبي رحمه الله وسئل عن الواقفة فقال أبي: من كان يخاصم ويعرف بالكلام فهو جهمي ومن لم يعرف بالكلام يجانب حتى يرجع ومن لم يكن له علم يسأل))([48])
قوله:
(( ولا تَقُـلِ القُرآنُ خَـلقاً قـرأتَـهُ )):
(( ولا )) الناهية.
((تقل)) فعل مجزوم وعلامته حذف حرف العلة وهو الواو, واللام ساكنة بالأصل, وحرِّكت بالكسر لالتقائها بساكن وهو ألف الوصل بقوله( القرآن).
((القرآن)) كلام الله تعالى المنزل من بدأ وإليه يعود.
((خلقا قرأته)) في رواية الذهبي: (( خلق قرآنه )), وفي رواية السفاريني ((خلق قراءةً)), وقوله ((خلقا)) مفعول, وفعله ( ولا تقل ), والفاعل تقديره أنت, وقرأته جملة أخرى: قرأ فعل ماض, والفعل: التاء في قرأت, والهاء مفعول. أما رواية: ((خلق قرآنه )) فــ (خلق) مبتدأ مرفوع, و(قرآنه) خبر المبتدأ, ورواية: (خلق قراءة) فالقرآن وخلق مبتدأ وخبر, ((وقراءة)) منصوب على الحال, وقد يقال: بنزع الخافض, أي في القراءة, والمقصود: أي لا تقل: قراءتي مخلوقة. وفي رواية السفاريني زاد (القرآن العظيم).
قوله:
((فإنَّ كَـلامَ اللهِ باللفْظِ يُــوضَحُ)):
((فإن كلام الله)): أي القرآن الكريم.
((باللفظ)): اللفظ لغة الرمي, ويقال: لفظ فلان النواة أي طرحها ورماها من فمه. وعند النسائي وغيره في قصة الرجل الذي وقصته ناقته (لَفَظَهُ بَعِيرُهُ فَمَاتَ),
((يوضح)): أي يظهر واضحا جليا, والمراد من كلام المصنف: ألا يقول المرء لفظي بالقرآن مخلوق, لأن القرآن كلام الله سواء كان مسموعا أو مقروءا أو مكتوبا فإنه يظهر وينجلي للناس بذلك, ولا يتعطل عنه وصفه بكونه كلام الله لمجرد أن قرأناه أو سمعناه.
اللفظ قد يراد به الملفوظ وهو الكلام , وقد يراد به الصوت الخارج من اللسان , وقد يراد به حركة اللسان أي الفعل , والمقصود هنا الكلام الذي خرج بصوت وحرف ولهذا لا يجوز أن يقال لفظي بالقرآن غير مخلوق لما فيها من الاشتراك في المعنى, وقد أسهب شيخ الإسلام في توضيح هذا.([49])
وهذا رد على اللفظية الذين كانوا يقولون: [ لفظنا بالقرآن مخلوق يدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع, فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا ], وقد عدهم أهل السنة من الجهمية, ولذلك قالوا: [قالوا : اللفظية جهمية وقالوا : افترقت التجهمية ثلاث فرق : فرقة قالت : القرآن مخلوق وفرقة قالت : نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق وفرقة قالت : تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق ], فلما انتشر ذلك – أي الإنكار على اللفظية - عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت : لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتلاوتنا له غير مخلوقة فبدع الإمام أحمد هؤلاء وأمر بهجرهم, ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث فقال : ( والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة, من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع)
 وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة أنه سمع غير واحد من أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع]([50])
مذاهب الناس في مسمى الكلام:
قال شيخ الإسلام: (وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " وَ " الْقَوْلِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
1-  فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْإِنْسَانِ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا.
2-   وَقِيلَ: بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ بَلْ هُوَ مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ النُّحَاةِ لِأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَلْفَاظِ.
3-  وَقِيلَ: بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ الْمَعْنَى وَإِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ.
4-   وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الكلابية, وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ.([51])


([1]) هو أبو محرز جهم بن صفوان السمرقندي , الضال المبتدع , رأس الجهمية . قتل سنة ثمان وعشرين ومئة لسان الميزان : (2/179) . قال حافظ حكمي في " معارج القبول " (1/280) : " قضى السلف الصالح رحمهم الله على الطائفة الواقفة وهم القائلون لا نقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق , بأن من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي , ومن لم يحن الكلام منهم , بل علم أنه كان جاهلاً جهلاً بسيطاً فهذا تقام عليه الحجة والبيان والبرهان فإن تاب وآمن أنه كلام الله تعالى , وإلا فهو شر من الجهمية " أ.هـ. وانظر مجموع الفتاوى : (12/359 ,395) , وما بعدها.
([2])هكذا في عامة المراجع قال في القاموس : " سَجَح لَه بكلامٍ : عَرّض" , أي قالوا وعرضوا . وفي لوائح الأنوار : (1/231) , قال [ واسمحوا ] بالميم بعدها حاء مهملة , ثم شرحها بقوله : " أي جادوا بالقول بخلق القرآن و لانوا , يقال سمح ككره ... جاد وكرم " أ.هـ. وهذا البيت لم يرد في العلو .
([3])في  شرح مذاهب أهل السنة  : (خلق قراءته) , وفي العلو : (خلق قرانه) , وفي مختصر الشطّي : (خلق قرائه) وفي لوائح الأنوار السنية : (خلق قراءة) وقال في شرحها : " القرآن مبتدأ وخلق بمعنى مخلوق خبره , وقراءة منصوب على الحال , أو بنزع الخافض أي في القراءة ... يعني لا تقل قراءتي مخلوقة " (1/232) أ.هـ.
([4]) قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله : " اشتهر عن السلف أن اللفظية جهمية وهم من قال لفظي بالقرآن مخلوق وقالوا : ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع , يعنون غير بدعة الجهمية , وذلك لأن اللفظ يطلق على معنيين أحدهما الملفوظ  به , وهو القرآن وهو كلام الله ليس فعلاً للعبد , ولا مقدوراً له .
والثاني : التلفظ وهو فعل العبد , فإذا أطلق لفظ الخلق على المعنى الثاني شمل الأول , وهو قول الجهمية وإذا عكس الأمر بأن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق شمل المعنى الثاني , وهي بدعة أخرى من بدع الإتحادية , إذ اللفظ معنى مشترك بين التلفظ الذي هو فعل العبد وبين الملفوظ به الذي هو كلام الله عز وجل , وهذا بخلاف ما ذكر السلف بقولهم : الصوت صوت القارئ , والكلام كلام الباري , فإن الصوت معنى خاص بفعل العبد لا يتناول المتلو المؤدى بالصّوت " أ.هـ . باختصار (1/292) .
([5]) كل مخلوق حادث وليس العكس, فإن القرآن حادث من حيث آحاده أما من حيث نوعه ( أي كونه كلاما ) فهو أزلي, وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى.
([6])[الزمر: 28]
([7]) معالم التنزيل للبغوي (5\141).
([8])[السجدة: 2]
([9])[طه: 2]
([10])[محمد: 19]
([11])[المائدة: 44]
([12])[البقرة: 79]
([13])[الحجر: 9]
([14]) العقيدة الواسطية (صـــــ16ـــــــ).
([15]) [النساء: 82]
([16]) [الزمر: 28]
([17]) تفسير البغوي (5/ 141)
([18]) الملل والنحل للشهرستاني: (1/ 85)

([19])[الأنبياء:2]
([20]) ينظر كلام شيخ الإسلام في الصفدية (2\83, وما بعدها )
([21])الرد على الجهمية - الدارمي (ص: 193)
([22]) شرح اعتقاد أهل السنة للخميس (صــ67ــــ)
([23])المواقف للإيجي (3/ 140)
([24])[الشعراء: 195]
([25])[النحل: 103]
([26])[النحل: 104]
([27]) العقيدة الأصفهانية ( صــــ85ــــــ)
([28]) للفائدة: التزم بعض الكلامية من الأشاعرة والماتريدية بعض هذه الالتزامات بل جعلوها قولا.
([29])السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 102)
([30])العقيدة الأصفهانية (ص: 87)

([31]) انظر : رسالة السجزي في الرد على من أنكر الصوت والحروف (صـــ81ـــ) طبعة دار الراية, وقاعدة في كلام الله (12\7 وما بعدها ضمن الفتاوى ), العقيدة الأصفهانية (صـــ87ــــ), لوائح الأنوار للسفاريني (1\217 وما بعدها)
([32])مجموع الفتاوى (6/ 296)
([33]) التعاريف للمناوي (صــــ199ـــــ)
([34])[آل عمران: 187]
([35])الفتاوى الكبرى (5/ 29)
([36]) مقالات الإسلاميين (صــ29ــــــــــ)
([37])  مقالات الإسلاميين (ص: 583)
([38])الشريعة للآجري (ص: 83)
([39])الإيمان قول وعمل واعتقاد , - وعليه فالكفر يقع بالقول والعمل والاعتقاد أيضاً - , ويزيد وينقص , ولذلك يتفاضل أهله فيه.
([40])منهج أهل السنة إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الصفات الذاتية والفعلية , من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل. وقد تكلمنا بشيء من التفصيل عن الصفات الذاتية والفعلية ومن خالفنا في ذلك.
([41])العلم صفة ذاتية لا تنفك عن الله فالله عالم منذ الأزل ولا يزال عليما , يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون , وعلمه في الأزل بما سيكون من حيث الإرادة والعلم بمراده , ثم إذا أوجده علمه موجودا , وعند وجوده تكون الإرادة التامة, والإرادة مستلزمة للعلم.
([42])لسان الميزان ت أبي غدة (2/ 500 وما بعدها), الفتاوى الكبرى (5\29), والملل والنحل ((1\85, وما بعدها ).
([43]) لسان العرب (2\475).
([44])اعتقاد أهل السنة لللالكائي (2/ 325)
([45])مقالات الإسلاميين (ص: 148)
([46])انظر: اعتقاد أهل السنة لللالكائي (2/ 325)
([47])السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 173)
([48]) السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 179)
([49])درء التعارض (1\149).

([50]) درء التعارض (1\149).
([51]) مجموع الفتاوى (2\108).

الأحد، 24 فبراير 2013

شرح الأصل الثالث من الأصول الستة [السمع والطاعة]


الحمد لله وحده ...
فهذا شرح مخترر للأصل الثالث من الأصول الستة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب, وقد اقتبسته من شرحي على الأصول الستة واخترته طمعا في درء شبهات مرجئة المدخلية إذ تسارعوا وتسابقوا على شرح ذلكم الكتاب بسبب ذلكم الأصل وهو عليهم لا معهم كماا سنبين ذلك بإذن الله.
يقول المصنف:
الْأَصْلُ الثَّالِثُ :
أَنَّ مِنْ تَمَامِ الاجْتِمَاعِ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِمَنْ تَأَمَّرَ عَلَيْنَا وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَبَيَّنَ النَبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هَذَا بَيَانًا شَائِعًا ذَائِعًا بِكُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ شَرْعًا وَقَدَرًا ، ثُمَّ صَارَ هَذَا الْأَصْلُ لَا يُعْرَفُ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ يَدَّعِيْ الْعِلْمَ فَكَيْفَ الْعَمَلُ بِهْ؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح:
[للْأَصْلُ الثَّالِثُ]
وهنا يذكر المصنف أصلا ثالثاً جعله من تمام الأصل الثاني ألا وهو الاجتماع في الدين ونبذ التفرق فيه, فبيان هذا الأصل, وقد يقال:
إذا كان الأصل الثالث من تمام الثاني, فكيف يجعل الكمال أصلا منفردا؟
والجواب: من وجوه:
1-  أن الأصل لا يلزم أن يكون منفردا بذاته بل يُكتفى أن يبنى عليه غيره من جنسه, كما أن الأصل قد يكون دليلا أو مقيسا عليه.
2-    والمصنف أورد تلك الأصول باعتبار المراد لا الإطلاق, وإلا فالأصول أكثر من ذلك كما بينا.
3-  ويضاف على ذلك, أن لا بأس في إعادة جزء هام من أصل لبيان أهميته وللتأكيد على ضرورته.
مسألة2: إذا كان هذا الأصل بتلك الأهمية فما وجه استقلاله أو وجه أهميته وضرورته؟
والجواب: أن أهميته تكمن في كون الاجتماع في الدين ونبذ التفرق فيه لا يكون إلا بما يلي:
1-    وجوب قيام الخلافة الإسلامية لحفظ جناب التوحيد ودفع التفرق فيه.
2-  وجوب تنصيب إمام يقيم الحدود ويؤمن السبل ويقسم الفيء ويجاهد الأعداء ويحمي بيضة الإسلام.
3-    وجوب طاعة الإمام في المعروف, ولو كان عبدا حبشيا.
وقول المصنف: [السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِمَنْ تَأَمَّرَ عَلَيْنَا وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا]
وهذا نوع من الاقتباس, فقد اقتبس المصنف – رحمه الله – من الحديث المعروف الشاهد منه, وفيه مسائل:
1-  فقوله [السمع والطاعة] ليس على إطلاقه, كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }([1]) فالسمع والطاعة, مقيدة بالمعروف دون المنكر إجماعا, وقال ابن عبد البر: [ولا يلزم من طاعة الخليفة المبايع إلا ما كان في المعروف لأن رسول الله لم يكن يأمر إلا بالمعروف وقد قال إنما الطاعة في المعروف. وأجمع العلماء على أن من أمر بمنكر لا تلزم طاعته قال الله - عز وجل -{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}]([2])
2-  قوله: [لمن تأمر علينا] فتأمر من الإمارة أي صار أميرا على المؤمنين, والإمارة هي الشرعية, أو بالغلبة فإذا كانت إمارته مشروعة فلا بأس وإن تغلَّب ولم يكن ثمة إمام فصحت بيعته مع الإثم خشية الإفساد والتفرق, على أن يحكم بالكتاب والسنة, وقال ابن تيمية: [وقد خاطبني بعضهم – أي بعض التتر - بأن قال ملكنا ملك ابن ملك إبن ملك إلى سبعة أجداد وملككم ابن مولى فقلت له آباء ذلك الملك كلهم كفار ولا فخر بالكافر بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر قال الله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} فهذه وأمثالها حججهم ومعلوم أن من كان مسلما وجب, عليه أن يطيع المسلم ولو كان عبدا ولا يطيع الكافر وقد ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [ اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ودين الإسلام] إنما يفضل الإنسان بإيمانه وتقواه لا بآبائه ولو كانوا من بني هاشم أهل بيت النبي فإن الله خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبدا حبشيا وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفا قرشيا]([3]), فمورد النصوص إنما تقع على نوعين من الحكام:
a.  الحاكم العادل, فهذا لا يجوز الخروج عليه اتفاقا, وإن أجازوا الإنكار عليه كما في فعل سلمان مع عمر في قصة الجلباب, وكذا عبد الله بن عمرو مع معاوية لما جاء أميره ليأخذ أرضه كما في صحيح مسلم.
b.   الحاكم الظالم. وهذا الأمر فيه على قولين:
                    i.  أنه لا يجوز الخروج عليه, وإنما ينصح ويدعى للحق , وهو مذهب: سعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وظاهر مذهب عبد الله بن عمر وابن عباس, وأحمد بن حنبل وعليه الجماهير.
                   ii.  مشروعية الخروج عليه, وهو مذهب عبد الله بن الزبير, والحسين بن علي, وعبد الله بن عمرو مأخذ من خروجه لتقال أمير معاوية إذ جاء ليأخذ أرضه, وهو مذهب الأوزاعي وسعيد بن جبير ويروى عن أبي حنيفة أنه كان يمد بعض الخارجين على الأمير بالسلاح, ويروى عن مالك تجويزه ذلك, قلت: والظاهر أن أكثر هؤلاء ليس مرادهم خلع الإمام الظالم وإنما تجويزهم القتال لأخذ الحقوق الشرعية, قال أبو محمد رحمه الله: فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص بقية الصحابة وبحضرة سائرهم رضي الله عنهم يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه معاوية أمير المؤمنين إذ أمره بقبض الوهط ورأى عبد الله بن عمرو أن أخذه منه غير واجب وما كان معاوية رحمه الله ليأخذ ظلما صراحا لكن أراد ذلك بوجه تأوله بلا شك، ورأى عبد الله بن عمرو أن ذلك ليس بحق ولبس السلاح للقتال ولا مخالف له في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا جاء عن أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان وأصحابهم أن الخارجة على الإمام إذا خرجت سئلوا عن خروجهم فان ذكروا مظلمة ظلموها أنصفوا وإلا دعوا إلى الفيئة فان فاءوا فلا شيء عليهم وان أبوا قوتلوا ولا نرى هذا إلا قول مالك أيضا]([4])
فائدة:
بعض الناس يدخل المستبدل للقرآن ضمن الظالمين الذين ذهب كثير من أهل العلم إلى منع الخروج عليه أو قتاله, بل يجعلون ذلك من أصول أهل منهج السلف – حاشا لله – وهذا باطل من أشد البطلان.
فالذي يستبدل القرآن بالقوانين الوضعية ليس واردا في النصوص البتة, خلافا لمرجئة الحكام الذين لم يفرقوا بين الظالم وبين المستبدل, فنصبوا الأحكام وأقوال السلف على المستبدلين الموالين للكفار, بل لم نسمعهم يطلقوا عليهم لفظ الظالمين ولو ظلما أصغرَ, وصدق المأمون حينما قال للنضر بن شميل: [ يا أبا الحسن إن الإرجاء دين الملوك ]([5]), ومن تتبع واستقرأ فهم السلف لعلم أن محل النزاع ومورده إنما على الحاكم الظالم الذي يقيم الحدود ويؤَمِّن السُّبل ويقسم الفيء ويحمي بيضة الإسلام بجهاد أعدائه, ومن ذلك قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: [لا بد للناس من إمارة بَرَّة كانت أو فاجرة فقيل : يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ فقال يقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء]([6]), فربما هذا الإمام عنده شيء من المعاصي أو الكبائر, إلا أنه يقيم الدين ويحمي بيضته, فهذا الذي وارد فيه النزاع بين أهل العلم, وأما الآثار الواردة في كون التارك على كفر أصغر فإما هي على أحد وجهين:
1-  الأول: أنها في غير موضع الاستدلال, وذلك أنها وقعت مقابلة لمنهج الخوارج المكفرين بالكبيرة, فموضعها أن تقع على الذي يحكم بغير ما أنزل الله في فرادى الأعمال.
2-    الثاني: أنها تكون آثارا ضعيفة أو لغير أهل السنة والجماعة.
قول المصنف:
[ فَبَيَّنَ النَبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هَذَا بَيَانًا شَائِعًا ذَائِعًا بِكُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ شَرْعًا وَقَدَرًا ]
ومن حيث الشرع قد ذكرنا قدرا لا بأس به في الأصل الثاني لاشتراكهما في المعنى, وهناك أدلة أخص بهذا المعنى ومن ذلك:
ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعا : " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية " " الحديث " .ومنه ما روى الشيخان عن حذيفة في أثناء حديث : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم . قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك . قال الحافظ قوله : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم أي أميرهم . زاد في رواية أبي الأسود : تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك . وكذا في رواية خالد بن سبيع عند الطبراني : فإن رأيت خليفة فالزمه وإن ضرب ظهرك فإن لم يكن خليفة فالهرب . وقال الطبري . اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة ، فقال قوم هو للوجوب ، والجماعة السواد الأعظم ، ثم ساق محمد بن سيرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله لما قتل عثمان : عليك بالجماعة ، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة . وقال قوم : المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم . وقال قوم : المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين . قال الطبري : والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره ، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة . قال وفي الحديث : أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر . وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث ، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها انتهى .]([7])
ومن حيث البيان القدري, فإن الاجتماع على إمام فيه منفعة عظيمة ونصرة للمسلمين وقوة وبأس على الكافرين, كما تقدم من قول علي – رضي الله عنه - وقد روى أهل السير والبيهقي في الدلائل في حديث وفد بني الحارث أنه سألهم: [« بما كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ؟ » ، قالوا : كنا نغلب يا رسول الله من قاتلنا أنا  ما كنا ننزع عن يد ، وكنا نجتمع فلا نفترق ، ولا نبدأ أحدا بظلم ، قال : فقال : « صدقتم »]([8]), ويقول ابن تيمية – رحمه الله -: [ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان ولا أمر بقتال الباغين ابتداء بل قال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل}. فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء]([9])
يقول المصنف:
[ثُمَّ صَارَ هَذَا الْأَصْلُ لَا يُعْرَفُ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ يَدَّعِيْ الْعِلْمَ فَكَيْفَ الْعَمَلُ بِهْ؟]
أي ومع كل تلك البينات والواضحات, فإنه لا يزال يجهل هذه الأمور, كثير ممن ينتسبون إلى العلم, ولاشك أن من يجهل هذا الأصل وهو الاجتماع على الإمام والسمع والطاعة له ولو كان حبشياً, فكيف ننتظر منهم عملا؟
وهذا حق إذ العلم قبل العمل, ومن فاته العلم إما ترك العمل أو صار عمله فاسدا ليس المنشود, وكلاهما في السوء سواء., والله تعالى أعلم.
نسأل الله أن يرزقنا وليا شرعيا يقودنا بكتاب الله تعالى, وليس بصنم الديموقراطية وطغيان العلمانية!
ـــــــــــــــــــــــــــ
والحمد لله في الأولى والآخرة.


([1])[النساء: 59]
([2])التمهيد (23/ 277)
([3])مجموع الفتاوى (28/ 542)
([4]) المحلى (11/ 99)
([5]) الأسماء والكنى للدولابي برقم [613], وتروى أيضا عن رقبة بن مصقلة.
([6])السياسة الشرعية (ص: 87)
([7])تحفة الأحوذي (5/ 456) بتصرف يسير جدا.
([8]) دلائل النبوة للبيهقي [6\11], وذكره ابن هشام في السيرة [2\593] وغيرهما والحادثة مشتهرة بين أهل السير.
([9])منهاج السنة النبوية (3/ 231)