الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد:
فهذا شرح للناقض الرابع ضمن شرحي على نواقض الإسلام والذي يتضمن بحثا منفردا لمسألة الحاكمية وما ورد من شبهات مجملة تصلح للمناقشة ورد دعاوى المخالفين من آثار كأثر ابن عباس وطاوس سندا ومتنا, وهو على إجماله قد يبين حقيقة المخالفة ومواطن النزاع ومواطن الإجماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول المصنف:
فهذا شرح للناقض الرابع ضمن شرحي على نواقض الإسلام والذي يتضمن بحثا منفردا لمسألة الحاكمية وما ورد من شبهات مجملة تصلح للمناقشة ورد دعاوى المخالفين من آثار كأثر ابن عباس وطاوس سندا ومتنا, وهو على إجماله قد يبين حقيقة المخالفة ومواطن النزاع ومواطن الإجماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول المصنف:
((الرابع: من اعتقد أن غير هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه, أو أن
حكم غيره أحسن من حكمه – كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه - فهو كافر.))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
((الشرح)):
قوله: ((الرابع)): أي من النواقض العشر.
((اعتقد)): أي عقد قلبه وضميره على ذلك, وهذا لا يلزم منه التنفيذ لما
يعتقد فمجرد ذلك كفر بذاته.
((أن غير هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل
من هديه)):
وهديه – صلى الله عليه وسلم – هو سبيله وطريقته ومعاملاته.
وقوله: ((أن غير هدى النبي )): جاءت مطلقة
فيشمل أهل الكتاب وغيرهم من الملاحدة وعَبَدة الأصنام وغيرهم, وقد قال النبي – صلى
الله عليه وسلم – في خطبته المشهورة: [أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وأفضل
الهدى هدى محمد – صلى الله عليه وسلم - ]([1]), وذلك أن الله
تعالى اختار محمدا – صلى الله عليه وسلم – ورضي هديه وخلقه, فمن لم يرض بخلقه أو
هديه فقد طعن في حكم الله جل في علاه, وذلك أن الله تعالى قال: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}([2]) [ وهو الخلق
القويم. ثم فسَّره بقوله: { صراط الله الذي} أي: شرعه الذي أمر به الله ]([3]), ومنه قوله تعالى: {مَا
ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى}([4]), قال البغوي: [يعني:
محمدا صلى الله عليه وسلم ما ضل عن طريق الهدى { وما غوى. } { وما ينطق عن الهوى }
أي: بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم
يقول القرآن من تلقاء نفسه.]([5]), بل إن أدبه وخلقه
إنما هو تشريع وخلق مجسد لآداب القرآن ولذلك قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى
خُلُقٍ عَظِيمٍ}([6]), قال الطبري: [يقول
تعالى ذكر لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب
القرآن الذي أدّبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه.]([7]), وقد كانت عائشة –
رضي الله عنها – تقول: [ كان خلقه القرآن ]([8])
المسألة الثانية قوله:
[أو أن حكم غيره أحسن من حكمه]
((أو)) للتنويع, أي يتساوى الحكم فيما
قبلها وبعدها, ولا يلزم من ذلك الجمع بينهما حتى يستحق صاحبهما الحكم.
((حكم غيره)) والحكم هو القضاء, ويدخل في
قوله ((غيره)): سواء حكم كاهن أو حبر أو زعيم قبيلة.
((أحسن من حكمه )) وأحسن صيغة تفضيل, وهي على
الغالب, وإلا فمن ساوى بين حكمه وحكم غيره فحكمه حكم من فضل حكم غيره على حكمه.
وكل ذلك كفر وردة, وذلك أن حكمه تشريع ولا يقرُّه الله تعالى على خطأ كما
هو مقرر في الأصول ودلت عليه الأدلة, وقد قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }([9]), وقد وصف الله
تعالى حكم نبيه – صلى الله عليه وسلم – والذي هو حكمه قائلا: {أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ}([10]), ومنه قوله تعالى: {إِنَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}([11]), ومثله قوله تعالى:
{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ }([12]), فسواء من حسن أو
جوز حكم غير الله أو قال حكم غير الله أحسن فكلاهما كافر مرتد, إجماعا.
ثم ضرب المصنف مثالا على ذلك فقال: ((كالذين
يفضلون حكم الطواغيت على حكمه )): والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو
متبوع أو مطاع, فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون
الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله ]([13])
والكفر بالطاغوت: أحد ركني شهادة ألا إله إلا الله, نص على ذلك قوله تعالى:
{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا}([14]), فمن لم يكفر
بالطاغوت, وهو كل ما يعبد من دون الله – كما تقدم – فلم يحقق شهادة ألا إله إلا
الله, فكيف بمن يجوز أو يفضل حكمه على حكم الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم - فإذا كان الأول لم يوحد الله ابتداء, فالثاني
أشد منه كفرا وأكثر بعدا وضلالا لا محالة.
قال ابن كثير: [ أي: من خلع الأنداد والأوثان, وما يدعو إليه الشيطان من
عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو { فقد
استمسك بالعروة الوثقى } أي: فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط
المستقيم.]([15]).
ومن أمثلة هؤلاء: الذين يفضلون الحكم العلماني أو ما يسمى بالديموقراطي,
وكذا من يرى جوازه فكل هذا كفر وردة, ونعوذ بالله من الكفر وأهله.
ويقول المصنف في الواجبات المتحتمات: والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة :
الأول : الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله ، والدليل قوله تعالى : { ألم
أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} .
الثاني: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله ، والدليل قوله تعالى : { ألم تر
إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا
إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} .
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله ، والدليل قوله تعالى : { ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .
الرابع: الذي يدّعي علم الغيب من دون الله ، والدليل قوله تعالى : { عالم
الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلُك من بين يديه ومن
خلفه رصداً } ، وقال تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في
البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس
إلا في كتاب مبين } .
الخامس: الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة ، والدليل قوله تعالى: {
ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين }.([16])
وهنا مسألة: ما حكم من لم يحكم بما
أنزل الله؟
وله حالتان:
o أن
يحكم بغير ما أنزل الله في فرادى الأعمال وأحادها.
o أن
يحكم بغير ما أنزل الله في أغلب أعماله.
الحالة الأولى:
أن يكون الحاكم المسلم أو القاضي, قائما على الناس بكتاب الله وسنة رسوله –
صلى الله عليه وسلم – وذلك أن يكون الكتاب الكريم هو المصدر الوحيد للتشريع لا
يسوي بينه وبين غيره ولا يشرك معه في الحاكمية غيره ولا يستسلم لغيره لا في كثير
ولا في قليل, وألا يطلق قانونا واحدا مخالفا لظاهر القرآن, ثم يعتريه ظلم فيحكم
بغير ما أنزل الله في قضية أو في بعض القضايا, فذلك كفر دون كفر أو كفر ينقل عن
الملة, كأكل السحت, وفي معنى ذلك قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ
تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }([17]) وعليه يحمل ما يروى
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – [ هو كفر دون كفر .. أو كفر لا ينقل عن الملة ..
أو هو به كفر]([18]), وقال ابن مسعود: من يشفع شفاعة ليرد بها حقا
أو يدفع بها [ظلما فأهدي له فقبل فهو سحت، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى
ذلك إلا الأخذ على الحكم، فقال: الأخذ على الحكم كفر, قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}([19]) ]([20])
والحالة الثانية:
ولها صورتان:
1- أن يدعي
أنه: يجعل القرآن مصدرا وحيدا للتشريع ويخالفه في التطبيق فلا يرجع إليه البتة ولا
يجعله حجة الحاكم – كالقاضي – ولا حجة المحكوم وذلك في أغلب الأحكام, أو أن يسن
قانونا يخالف القرآن في حكم ظاهر معلوم من الدين بالضرورة, فإن ذلك هو الكفر
الأكبر المخرج من الملة, يقول العلامة ابن قاسم: [ وهذا كثير، فمن الناس من يحكم
بين الخصمين برأيه وهواه، ومنهم من يتبع في ذلك سلفه، ويحكم بما كانوا يحكمون به،
ومنهم من يحكم بالقوانين اليونانية، وهذا كفر إذا استقر وغلب على من تصدى لذلك ممن
يرجع الناس إليه إذا اختلفوا، وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده، فيعتمد
على قول من قلده، ويدع ما دل عليه الكتاب والسنة.]([21])
2- أن
يستبدل القوانين الوضعية بالقرآن وإليها – القوانين الوضعية – يرجع الحكم كله,
فتكون حجة القاضي في الحكم وحجة الطالب في طلب حقوقه, وهو أولى بالكفر الأكبر من
سابقه, وفي هذا كله نزل قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}([22]), ومنه قول ابن
مسعود: [ من يشفع شفاعة ليرد
بها حقا أو يدفع بها [ظلما فأهدي له فقبل فهو سحت، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما
كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم، فقال: الأخذ على الحكم كفر, قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}([23]) ]([24])
فائدة فيما ورد عن ابن عباس في الباب:
وردت بعض الروايات عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}([25])
قال ابن عباس: « ليس بالكفر الذي يذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة (
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) كفر دون كفر »([26]), وما روي عنه: ((
ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ))([27]), وحملها كثير من
المتأخرين على مطلق الحكم وليس عندهم كفر في الحاكمية إلا إذا اصطحبه الاستحلال أو
التفضيل, وهذا القول غاية في الفساد من وجهين:
-
الأول: من حيث الاستدلال العام المخالف للكتاب
والسنة والإجماع.
-
الثاني: من حيث استدلالهم بأثر ابن عباس.
أما الوجه الأول: (( من حيث الاستدلال العام )):
فقد تقدم بيانه مختصرا: ونزيد قائلين: إن القول بكون الكفر المذكور في
الآية هو كفر دون كفر حتى فيمن حكم بما أنزل الله بالكلية, قول باطل لوجوه:
1- أن
الحكم من صفات الله – تعالى – فمن حكم من دون الله فقد نصب نفسه إلها من دون الله,
وقد قال تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}([28])
2- أن
الطاغوت: هو من تحاكم الناس إليه من دون الله, وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد في
قوله:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"، قال:"الجبت" السحر،
و"الطاغوت"، الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم.([29]), وهو قول عمر بن
الخطاب.
3- أن
الله تعالى: نص على وجوب الكفر بالطاغوت وأنه لا يصح إسلام إلا به فقال: { فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا}([30])
4- عموم
قوله تعالى: {وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}([31]), ولم يقيدها قيد ولا يخصها مخصص, فكل من لم
يحكم بما أنزل الله – تعالى – فهو كافر.
5- أن قوله: (( فأولئك هم
الكافرون.. الظالمون .. الفاسقون)) كلها في الكفار لا فرق بين الأولى ولا الثانية
ولا الثالثة, وقد نزلت في حادثة اليهود الذين قالوا: ائتوا محمدا فإن أفتاكم بالتحميم
والجلد فخذوا وإن أفتاكم بالرجم فأعرضوا .. ونزل قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل
الله .. الآيات وقال ابن عمر:هي في الكفار كلها ))([32]), وكذلك قال البراء
بن عازب([33]), وقد قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ
هُمُ الظَّالِمُونَ}([34])
6- أنه
لو كان الحكم بالتكفير معلق بالاستحلال القلبي لما كان لقوله تعالى: (( فأولئك هم
الكافرون )), معنى ولا حاجة, فمن المعلوم أن رد شيء من كتاب الله أو سنة النبي –
صلى الله عليه وسلم – سواء كان واجبا أو سنة هو كفر بذاته – كما تقدم -.
7- أن
الله – تعالى- أنكر أن يجمع مؤمن بالله بين الإيمان به وبين التحاكم إلى غير الله
ورسوله – صلى الله عليه وسلم – فقال: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا
بِهِ }([35]), قال ابن كثير: [ هذا
إنكار من الله، عز وجل، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى
الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله
وسنة رسوله ]([36])
8- أن هذا
القول مخالف لإجماع المسلمين ومن ذلك:
i. ما قاله
ابن حزم: [وأما من أجاز أن يكون صاحب فمن دونه ينسخ أمرا أمر به رسول الله – صلى الله
عليه وسلم - أو يحدث شريعة، فهذا كافر مشرك حلال الدم والمال، بمنزلة اليهود
والنصارى، وعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، ونحن برآء منه
وهو برئ منا ]([37])
ii. ويقول
شيخ الإسلام: [ متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل
الشرع المجمع عليه كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء ]([38])
iii. وقال
ابن كثير بعد أن عدد بعض نصوص الياسا([39])[ وفي ذلك كله
مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن ترك
الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من
الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه من فعل ذلك كفر
بإجماع المسلمين ]([40]), وأنا أقول: فكيف
من تحاكم إلى القانون الوضعي الصهيوصليبي الشركي؟!
أما الثاني: من حيث استدلالهم بأثر ابن عباس.
والرد على ذلك من وجهين:
-
أولا من حيث المتن: وذلك من وجوه:
o
أن الكفر هنا عام وقول الصحابي لا يخصص العام ولا
يقيد المطلق.
o
أنه يلزم القائل به أن يكون حكم الله على اليهود
الذين نزلت فيهم الآية أنهم على كفر دون كفر.
o
أن الكفر هنا معرف بالألف واللام: [ وفرق بين
الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه و سلم ليس بين العبد وبين الكفر أو
الشرك إلا ترك الصلاة وبين كفر منكر في الإثبات وفرق أيضا بين معنى الاسم المطلق إذا قيل كافر
أو مؤمن وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده ]([42])
o
أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة
العلماء([43]), ولا اعتبار بالسبب
إلا من حيث المشابهة في الصفة فيتشابهان في الحكم.
o
أن الأولى من ذلك: حمله على أحادي الأحكام
والأقضية, وأنه لا يتصور أن يصدر من مسلم مؤمن بالله واليوم الآخر حكم من دون الله
إلا على وجه الشهوة أو الجهل في القضية والقضيتين كما تقدم, ويستأنس في ذلك بما
روي عنه – رضي الله عنهما – أنه قال: [من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر ، ومن
أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق . يقول : من جحد من حدود الله شيئا فقد كفر]([44]), والشاهد ليس في
تخصيصها بالجحود بل قوله: (( من جحد من حدود الله شيئا )) فدل ذلك على أن محل
كلامه هو على شيء من حدود الله لا مطلق الأوامر والنواهي, وأظهر من ذلك ما قاله
الترمذي في حديث: [ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ], قال أبو عيسى: هذا حديث حسن
صحيح ومعنى هذا الحديث قتاله كفر ليس به كفرا مثل الارتداد عن الإسلام والحجة في
ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: [من قتل متعمدا فأولياء المقتول بالخيار إن
شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا ] ولو كان القتل كفرا لوجب] وقد روي عن ابن عباس و
طاووس و عطاء وغير واحد من أهل العلم قالوا كفر دون كفر وفسوق دون فسوق ]([45])
-
ومن حيث السند:
o فإن
السند القائم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – من طريق هشام بن حجير وهو ضعيف جدا
كما قال ابن معين, وقال على ابن المديني : قرأت على
يحيى بن سعيد : حدثنا ابن جريج عن هشام بن حجير ، فقال يحيى بن سعيد : خليق أن
أدعه . قلت : أضرب على حديثه ؟ قال : نعم . قلت : فى ماذا ؟ قال : فيما يضرب فيه
أهل مكة . و قال أبو عبيد الآجري : سمعت أبا داود قال : هشام بن حجير ضرب الحد
بمكة ([46]),وقال
العقيلي : قال ابن عيينة : لم نأخذ منه إلا ما لا نجد عند غيره . اهـ . ([47])
o
وأما الرواية الأخرى, فإنما هي من طريق علي بن
أبي طلحة عنه وهو ضعيف كما ذكره المحققون, قال شيخ الإسلام في رده على البكري: [ و
تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال أحمد علي بن أبي طلحة ضعيف ولم يسمع من ابن
عباس شيئا وتفسير يرويه محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذام عن ابن عباس
والكلبي كذاب و باذام ضعيف ولم يسمع من ابن عباس شيئا, قال عبد الصمد بن الفضل سئل
أحمد عن تفسير الكلبي فقال كذب فقيل له أفيحل النظر فيه ؟ قال لا ]([48])
o أن
هذا من قول طاوس نفسه وإدراجه أو قول عطاء وأن لفظ ابن عباس هو فقط (( هي كبيرة )):
قال معمر: عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : سئل ابن عباس في قوله : ( ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال : هي كبيرة, قال ابن طاوس : وليس كمن كفر
بالله وملائكته وكتبه ورسله . وروي عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر))
o أنه
قد روى عنه خلاف ذلك: منه ما رواه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لم يكن في بني إسرائيل
شيء إلا كائن فيكم ]([49])
o ويدفع
عنا هذا الاعتراض ما جاء عن همام بن الحارث ويبين معنى قول ابن عباس يقول: [ همام
بن الحارث: كنا عند حذيفة فذكروا [ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون]
فقال رجل من القوم إنما هذا في بني إسرائيل فقال حذيفة نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل
إن كان لكم الحلو ولهم المر كلا والذي نفسي بيده حتى تحذي السنة بالسنة حذو القذة
بالقذة ]([50]), والله
تعالى أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق