الأخبار

الاثنين، 4 فبراير 2013

شرح رسالة ابن الماجشون [من شرحي على الحموية]

الحمد لله وحده ... ثم أما بعد.
فهاكم شرحا على رسالة ابن الماجشون مقتبس من شرحي على الفتوى الحموية, لشيخ الإسلام ابن تيمية, - شرحت بعضه قديما ولم أكمله بعد - وكان مما نقل من ألفاظ السلف في بيان عقيدة أهل السنة في الصفات كلام ابن الماجشون وهي رسالة مشهورة تناقلها المصنفون عنه مسندة إليه, وليعلم أن محط النظر إنما على هذا الباب, وكونه شرحا للفتوى الحموية ابتداء والرسالة تبعا له. 
 بسم الله الرحمن الرحيم:
قال المصنف ((رحمه الله)) :

وروى الأثرم في " السنة ", وأبو عبد الله بن بطة في " الإبانة ", وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون - وهو أحد " أئمة المدينة الثلاثة " الذين هم: مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب –
ــــــــــــــــــ
((ش))
هذا الأثر رواه ابن بطة في الإبانة([1]), - وهو عظيم الفوائد – عن عبد العزيز بن عبد الله ابن أبي سلمة الماجشون – من كبار أتباع التابعين - وهو من أقران مالك بن أنس – إمام دار الهجرة – قال ابن وهب: (( حججت سنة ثمان وأربعين ومئة، وصائح يصيح: لا يفتي الناس إلا مالك، وعبد العزيز بن أبي سلمة. وفي رواية: وابن أبي ذئب))([2]), وعلى كل فهم أئمة المدينة كما ذكر المصنف –رحمه الله – ويشير المصنف إلى ما يلي :
·   صحة السند عنه : فسنده صحيح إلى أبي صالح الذي أملاه له عبد العزيز  بن الماجشون , وأبو صالح وإن كان فيه لين إلا أنه ثبت في كتابه كما ذكر الحافظ , وما أنكر عليه أحمد إلا روايته عن الليث عن ابن أبي ذئب, وأنكر أن يكون روى الليث عن ابن أبي ذئب, وقد صاحبه عشرين عاماً كما ذكر هو, ووثقه ابن معين, وعلى كل فهو مما أملاه ابن الماجشون له ولعل له من المشاهدات ما يؤيد صحته خاصة عزو المصنف للأثرم ولأبي عمر ولم أظفر بأي منهما ))([3])
·       أن عبد العزيز بن الماجشون من كبار أتباع التابعين إمام متبوع .
·   أنه أحد الأئمة الثلاثة في المدينة فلا يمكن أن يفتي بشيء مخالف ولا ينكره عليه أكثر الناس , يدل على ذلك قول ابن حبان : (( وكان فقيها ورعا متابعا لمذهب أهل الحرمين من أسلافه مفرعا على أصولهم ذابا عنهم ))([4])
·       أنه تعضيد لما سبق من قولة مالك فقد عاصره .


قال المصنف (( رحمه الله )) :
(( وقد سئل عما جحدت به الجهمية : " أما بعد : فقد فهمتُ ما سألتَ فيما تتايعتِْ الجهميةُ, ومن خَلَفَها في صفة " الرب العظيم " الذي فاقت عظمتُه الوصفَ والتدبرَ, وكلَّتِْ الألسُنُ عن تفسير صفته, وانحصرت العقولُ دون معرفة قدرته, وردت عظمتُه العقولَ فلم تجد مساغا؛ فرجعت خاسئةً وهي حسيرةٌ . وإنما أُمِرُوْا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير, وإنما يقال " كيف " لمن لم يكن مرةً ثم كان؛ فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل؛ فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو . وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى ؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى - يعرفه عارف, أو يحد قدَرَه واصفٌ ؟ - على أنه الحق المبين؛ لا حقَّ أحقُ منه, ولا شيءَ أبينُ منه . الدليلُ على عجز العقول عن تحقيق صفته؛ عجزُها عن تحقيق  صفة أصغرِ خلقِه؛ لا تكاد تراه صغرا, يجول ويزول, ولا يرى له سمع ولا بصر; لما يتقلب به ويحتال من عقله؛ أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره؛ ((فتبارك الله أحسن الخالقين)) وخالقهم وسيد السادة, وربهم { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }.
ــــــــــــــــ
((ش))
-   سئل الإمام عبد العزيز بن الماجشون عن حال الجهمية وجحدها الإنكار ويدخل فيه ما عطلت الخالق منه, أو نسبته للخالق وليس له . فأملى الإمام عبد العزيز بن الماجشون على صاحبه أبي صالح ما ساقه المصنف, فهي بمثابة الرسالة وفيها فوائد عظيمة لا تخفى على القارئ لا يحتمل هذا الشرح المختصر ذكرها, ولكن نذكر منها فوائد :
قول الإمام (( تتايعت الجهمية )) فيه دلالة على شهرة معتقد الجهمية, فالتتايع التهافت في الشر, كما قال أبو عبيدة([5]).
وقوله ((, ومن خَلَفَها في صفة " الرب العظيم ")) فيه دلالة على شهرة إطلاق كلمة الصفات على ذات الله – تعالى - مخالفة لجهلة القوم الذين ينسبون أنفسهم إلى العلم, ويقولون : لا يجوز أن نطلق لفظة الصفات على الله , وفي الصحيحين : الرجل الذي كان يؤم أصحابه ولا يتجاوز ((قل هو الله أحد)) فاشتكوا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم فَقَالَ « سَلُوهُ لأَىِّ شَىْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ ». فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ ».([6]), وقد جاءت في ألفاظ السلف ما لا يحتمله المقام .
وقوله – رحمه الله - : ((فاقت عظمتُه الوصفَ والتدبرَ, وكلَّتِْ الألسُنُ عن تفسير صفته)), التفسير عند السلف هو الكيفية, وقد سبق قول ابن عيينة (تفسيره السكوت عنه), ولذلك قال- ابن الماجشون - بعدها : ((وإنما يقال " كيف " لمن لم يكن مرةً ثم كان)) .
وقوله (( وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى - يعرفه عارف, أو يحد قدَرَه واصفٌ ؟ )), أي كنه الصفة, وهذا جلي يؤيد ما قلناه, وليس هذا من جنس قول الجهمية الذين قالوا : (( إن الله غير موصوف ولا محدود ولا منعوت ولا مرئي ولا في مكان))([7]), وقد نفى السلف الحدية تارة وأثبتوها تارة, والنفي واقع على الكيفية, والإثبات على معنى الصفات, كما جاء عن أحمد روايتان, وغلط من ظن أن هاتين الروايتين متناقضتين, قال شيخ الإسلام :(( فهذا الكلام من الإمام أبى عبد الله أحمد رحمه الله يبين أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى أو صفاته بحد أو يقدرون ذلك بقدر أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره أو أنه هو يصف نفسه وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها كما ذكر من كلامهم في غير هذا الموضع ما يبين ذلك ))([8])
وقوله – رحمه الله - : (( الدليلُ على عجز العقول عن تحقيق صفته؛ عجزُها عن تحقيق  صفة أصغرِ خلقِه .. )), هذا من جنس قياس الأولى الذي يستعمله السلف, وهو في كتاب الله , الذي قال فيه شيخ الإسلام (( وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف إتباعا للقرآن فيدل على انه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره .. ))([9]), وحاصل المقيس عليه: إذا كنا نعجز عن رؤية أصغر مخلوق؛ ولا ندرك له سمعاً ولا بصراً, مع وجودهما, أفلا نعجز عن إدراك الخالق؛ وهو خالقهم وسيدهم ؟! 



 قال المصنف - رحمه الله - (( بقية كلام ابن الماجشون)) :
(( اعرف - رحمك الله - غناك عن تكلف صفة ما لم يصفِْ الرَّبُ من نفسه؛ بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها; إذا لم تعرف قدر ما وصف؛ فما تكلفك علم ما لم يصف ؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته ؟ فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد { استهوته الشياطين في الأرض حيران }؛ فصار يستدل - بزعمه - على جحد ما وصف الرب, وسمى من نفسه؛ بأن قال : لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا؛ فعمى عن البيِّن بالخفيِّ؛ فجحد ما سمى الرب من نفسه؛ لصمت الرب عما لم يسم منها؛ فلم يزل يملي له الشيطان؛ حتى جحد قول الله عز وجل : { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة }؛ فقال : لا يراه أحد يوم القيامة فجحد- والله- أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة- من النظر إلى وجهه, ونضرته إياهم { في مقعد صدق عند مليك مقتدر }, قد قضى أنهم لا يموتون؛ فهم بالنظر إليه ينضرون .
(إلى أن قال) : - وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة, إقامة للحجة الضالة المضلة; لأنه قد  عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة؛ رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين, وكان له جاحدا . { وقال المسلمون : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب . قالوا : لا . قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا . قال : فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك } . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض } { وقال لثابت بن قيس : لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة } { وقال فيما بلغنا إن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب إن ربنا ليضحك ؟ قال : نعم قال لا نعدم من رب يضحك خيرا } . إلى أشباه لهذا مما لا نحصيه . وقال تعالى : { وهو السميع البصير } { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } وقال تعالى : { ولتصنع على عيني } وقال تعالى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }, وقال تعالى : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } . فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه؛ وما تحيط به قبضته : إلا صغر نظيرها منهم عندهم؛ إن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم؛  فما وصف الله من نفسه, وسماه على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم- سميناه كما سماه, ولم نتكلف منه صفة ما سواه - لا هذا ولا هذا - لا نجحد ما وصف, ولا نتكلف معرفة ما لم يصف .
ــــــــــــــــــــ
((ش))
في هذه الفقرة آخذ الإمام ابن الماجشون – رحمه الله – يعدد ضلالات الجهمية, ومن وافقهم.
 ونحن نذكر ملخصاً عنها حواه كلام الإمام ونزيد يسيرا :
فهم أتباع الجهم بن صفوان الذي قتله سلمة بن أحوز بخراسان, وكان قد أخذ معتقده من الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري بحران وكان فيها الفلاسفة الصابئة بقايا أهل الشرك. وتنسب الطائفة للجهم بن صفوان لدعوته لها, وتتلخص عقيدتهم فيما يلي :
-         الإيمان عندهم هو المعرفة فمن أتى بالمعرفة – في زعمهم – ثم جحد بلسانه لا يكفر .
-         الإيمان لا يتبعض, أي لا ينقسم إلى : قول وعمل واعتقاد .
-         وعليه نفوا تفاضل أهله فيه, فإيمان الأمة كإيمان الأنبياء, إذ المعارف لا تتفاضل .([10])
-   وافقوا المعتزلة في نفي الصفات وقالوا لا يجوز أن يوصف الله بما وصف به خلقه, وأثبتوا كونه قادرا خالقا فاعلاً, وذلك لأن المخلوق لا يوصف بشيء من هذا .([11])
-         أثبتوا علوماً لله – تعالى – لا في محل .([12])
-         نفوا الرؤية, وقالوا بخلق القرآن, وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع.([13])
-         الإنسان مجبور – عندهم – لا يوصف بالقدرة ولا الإرادة ولا الاختيار .([14])
-   فناء الجنة والنار وأهليهما, إذ لا يُتصور حركات لا تتناهى – زعموا – أخراً, كما لا يُتصور حركات لا تتناهى أولاً .([15]).))([16]) 
  فيبين الإمام – رحمه الله – أن الله – تعالى – أغنانا , بل نهانا عن البحث عن تكلف الوقوف على صفاته, وهذا هو الكف عن معرفة كيفه – تبارك وتعالى –, وهذا الذي يقول فيه السلف (( تفسيره السكوت )) كما ذكرنا قبل ذلك عن ابن عيينة – رحمه الله – ثم أخذ يشنع على من يقيس الخالق على المخلوق وهذه لفتة طيبة, وفائدة عظيمة؛ من الإمام ابن الماجشون – رحمه الله – أن هؤلاء الذين جحدوا صفة الله – تعالى – إنما أوجبوا على الله – جل في علاه – أن يكون كما كيفوه , فجحدوا صفة الله – تعالى – لذلك قال – رحمه الله - : (( فصار يستدل - بزعمه - على جحد ما وصف الرب, وسمى من نفسه؛ بأن قال : (( لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا؛ فعمى عن البيِّن بالخفيِّ؛ فجحد ما سمى الرب من نفسه .. )), ويشير الإمام إلى شناعة قولهم : (( لا يجوز أن يوصف الله بما وصف به خلقه فلما أصلوا هذا بنوا عليه تعطيل سائر الصفات )),
مسألة :
قوله : (( فجحد ما سمى الرب من نفسه؛ لصمت الرب عما لم يسم منها ))
هذا من باب الإخبار والوارد السكوت كما في الحديث : (( إن الله افترض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تكلفوها رحمة لكم فاقبلوها ))([17]), والسكوت صفة فعلية خبرية متعلقة بمشيئته تعالى, والسكوت تارة يكون عن التكلم, وتارة يكون عن إظهار الحكم.))([18])
بل أدى بهم ذلك إلى جحود رؤية الله – تعالى -   .
ثم أورد الإمام – رحمه الله – شيئا من الأدلة على ثبوت ما يلي :
-         ثبوت رؤية المؤمنين لله – تعالى - .
-         صفة الساق وهي صفة ذاتية ثابتة لله – تعالى - .
-   صفة الضحك وهي صفة خبرية فعلية ثابتة لله – تعالى - . والحديث الذي أورده وهو (( لا نعدم من رب يضحك خيراً )) لا يثبت([19]), وفي الصحيح : ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة))([20]) .
-         صفة العين : وهي صفة ذاتية ثابتة لله – تعالى - .
-         صفة اليدين : وهي صفة ذاتية ثابتة لله – تعالى - .
-         وقد ذكر تعدد الأدلة وشهرتها, فقال:(( إلى أشباه لهذا مما لا نحصيه ))
-   ثم أشار إلى الإيمان ببقية الصفات وأنها تبت كما ثبتت هذه بوجوب العلم بالمعنى والكف والسكوت عن الكيف, فقال : ((فما وصف الله من نفسه, وسماه على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم- سميناه كما سماه, ولم نتكلف منه صفة ما سواه - لا هذا ولا هذا - لا نجحد ما وصف, ولا نتكلف معرفة ما لم يصف )).


قال المصنف – رحمه الله - : (( بقية كلام ابن الماجشون )) :



(( ... اعرف - رحمك الله -: أن العصمة في الدين؛ أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك, ولا تجاوز ما قد حد لك؛ فإن من قوام الدين: معرفة المعروف, وإنكار المنكر؛ فما بسطت عليه المعرفة, وسكنت إليه الأفئدة, وذكر أصله في الكتاب والسنة, وتوارثت علمه الأمة : فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك؛ ما وصف من نفسه عيبا ; ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدرا . وما أنكرته نفسك, ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك - من ذكر صفة ربك - فلا تكلفن علمه بعقلك ; ولا تصفه بلسانك ; واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه؛ فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكار ما وصف منها ; فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه : فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها, فقد - والله - عز المسلمون ; الذين يعرفون المعروف وبهم يعرف ; وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر ; يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما بلغهم مثله عن نبيه فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن وما ذكر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه سماه من صفة ربه؛ فهو بمنزلة ما سمي وما وصف الرب تعالى من نفسه . والراسخون في العلم - الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها - لا ينكرون صفة ما سمي منها جحدا, ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا ; لأن الحق ترك ما ترك, وتسمية ما سمى, ((ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)) وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين "  ))

ــــــــــــــــــــ
((ش))
 قوله – رحمه الله – اعرف – رحمك الله – فيها مسألتان :
المعرفة : وهي أوسع وأعم من العلم, فتحتمل المعلوم والمظنون, والعلم أخص, وقد تأتي المعرفة بمعنى العلم كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}([21]), ويأتي العلم بمعنى المعرفة كما قال : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}([22]), وذلك لمن فرق بين المعرفة والعلم بأن الأولى هي ما يسبقها جهل, والثانية ما لا يسبقها جهل, والعلم – غالبا - أخص وأشرف, ولذلك يقال : الله عالم؛ ولا يقال عارف, فقول الإمام – رحمه الله – هنا مقصوده المخصوص.
وقوله ((رحمك الله)) : أي نسأل الله – تعالى – أن يرحمك برحمته؛ فهي في صيغة الماضي على سبيل الطلب, وليس إخباراًُ, أو هي إخبار مشروط بالموت على التوحيد, والأول أشهر وأصح .
وفيه فوائد :
-   قف حيث وقف الشرع, والكف عما لم يأمرنا به, عملاً بقوله تعالى : {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}([23])
-         إقرار ما أمر الله به , وإنكار ما نهى الله عنه .
-         أن المعروف ما كان بوحي – الكتاب والسنة – واطمأن له قلوب المؤمنين.
-   أن ما عرفناه في الكتاب والسنة, فنجهر به ولا نخشى ذكره, وفي هذا : رد على المعطلة – الجهمية ومن تبعهم : من المؤولة والمفوضة أهل التجهيل والواقفة الذين هم أشر من الجهمية – وذلك بقوله : (( فما بسطت عليه المعرفة, وسكنت إليه الأفئدة, وذكر أصله في الكتاب والسنة, وتوارثت علمه الأمة : فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك؛ ما وصف من نفسه عيبا ; ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدرا .)).
-   فيه تفويض الكيف, أي الكف عن كيفية صفات الله, وإن بان لنا معناها؛ فمن كيَّف : أي جعل للصفة المعلوم معناها كيفاً فإن هذا فيه تمثيل الخالق بالمخلوق, وهذا باطل. مثال ذلك : قوله – صلى الله عليه وسلم - : (( إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَانِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ ، وَأَهْلِيهِمْ ، وَمَا وَلُوا.))([24]), فالنص هنا يثبت لله تعالى يدين, وكلتاهما يمين, فنقول : نثبت لله – تعالى – اليدين ونقول كلتاهما يمين, فإن قيل ما معنى اليد ؟ وما كيفية هذه اليد ؟ فالجواب : معنى اليد معلوم كما قال مالك, وهي التي تقبض وتبسط ويطوي بها, ويأخذ بها, وخلق ومسح بها آدم – عليه السلام – تشريفا له, وغير ذلك مما ثبت له – تعالى – بها من أفعال, أما كيفها فالسكوت هو الحق لأن الكيف لابد له من :
o      إما مشاهدة .
o  أو إخبار ممن رأى . ولم نره – تعالى – ولم يأتنا خبر عن كيفه, فلا يصح فيه تكيف ولا قياس ولا تمثيل, فنقول بما قاله السلف : من غير تكييف, أو الكيف مجهول, وليس معدوماً كما تقدم .
-   أن وصف الله – تعالى – بما لم يصف به نفسه, بمثابة من عطله – تعالى – عن صفاته, من القول على الله بغير علم .
-   عزة ((قلة)) العارفين بما أمر الله ونهى عنه, والعاملين به, قلت : فإن كان هذا في عصره فماذا نقول نحن ؟؟([25])
-   أن المسلم لا يكون مسلماً حقاً حتى يسلم تسليما تاماً بما جاء عن الله – تعالى – فلا يتحرج ولا يمرض في أن يسمى الله ما سمى به نفسه وسماه به رسوله – صلى الله عليه وسلم – ولا يتحرج في وصفه بما وصفه به نفسه ووصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم - .
-   وفيه أيضاً كفر من جحد الله أسمائه وصفاته, أو أحدهما , ولذلك قال الشافعي – رحمه الله - " لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه لا يسع أحدا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله القول بها فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية ولا بالفكر.))([26]).
-   وفيه تفسير قوله تعالى : {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}([27]), بأنهم الواقفون عند حدود الله, قلت: وهذا هو أجمع ما فُسِّرت به هذه الآية, وتفصيل ذلك ما أُثِر عن ابن عباس – رضي الله عنهما - أنه قال : (( التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها, وتفسير لا يعذر أحد بجهالته, وتفسير تعلمه العلماء, وتفسير لا يعلمه إلا الله؛ من ادعى علمه فهو كاذب ))([28]).
-         أن الحق : الوقوف حيث وقف الشارع, فما سمى ووصف به نفسه قلنا به, وما تركه تركناه .
-   وأشار – رحمه الله – إلى إجماع السلف على الإيمان بهذا فقال : (( ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)), وهذا تأويل لقوله تعالى – الذي استدل به السلف على حجية الإجماع - {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }([29]). ثم قال (( وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين)) , أي أن هذا ما أجمع عليه الصالحون سائلاً الله – تعالى – أن يلحقه والمسلمين بالصالحين. والله تعالى أعلم .




قال المصنف :
((.. وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام " فتدبره وانظر كيف أثبت الصفات ونفى علم الكيفية - موافقا لغيره من الأئمة - وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا كما تقوله الجهمية - أنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا فيكون محدثا .))
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
((ش))
قوله المصنف (( وهذا كله من كلام ابن الماجشون الإمام )), أي ما سبق من كلامه؛ فلم يتصرف فيه المصنف – رحمه الله – دلالة على سعة حفظه وأمانة نقله, وهذا بقية قول الإمام ابن الماجشون – رحمه الله – تتميماً للفائدة, وتصديقاً لقول المصنف - شيخ الإسلام – من كونه موافقاً لغيره, (( قال الشيخ فقد ذكرت لكم رحمكم الله من تثبيت رؤية المؤمنين ربهم تعالى يوم القيامة في الجنة وشرحت ذلك وبينته ملخصا من كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد وإجماع العلماء وأئمة المسلمين ولغات العرب ما في بعضه كفاية وغنى وهداية وشفاء لمن وهب الله بصيرة وأراد به مولاه الكريم الخير والسلامة )).([30]).
ثم ذكر المصنف الشاهد من كلام الإمام ابن الماجشون – رحمه الله – وقد شرحناه بتفصيل, والذي يظهر أنه نقل كلامه – تاماً - للفائدة التي بها من إمراره هذه القواعد على كل الصفات ردا على الأشاعرة, فضلاً عن الجهمية والمعتزلة . والله تعالى أعلى وأعلم .



[1]) ) رواه ابن بطة في الإبانة أثر(69) (3 / 63 وما بعدها), ومن علم شيخ الإسلام وحفظه وصدق عزوه؛ لم يشك في وجوده في السنة للأثرم, ومن رواية أبي عمر الطلمنكي له؛ غير أني لم أظفر بأي من الكتابين ولا أعلم أهما مطبوعين أم لا .
[2]) ) تهذيب الكمال للمزي ((13/157) . وسير أعلام النبلاء (7/311) , وأورده أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء (1/68) : بابن أبي ذئب مكان الماجشون, والمزي والذهبي أعلم بهذا الشأن .
[3]) )  أنظر تهذيب الكمال (15/101) , وتهذيب التهذيب ( 5/226)
[4]) ) الثقات لابن حبان (7 / 111)
[5]) ) غريب الحديث لأبي عبيد ابن سلام (1 / 13)
[6]) ) البخاري ( ح 741) , ومسلم (2/200) .
[7]) ) العقيدة الأصفهانية (ص: 110)
[8]) ) بيان تلبيس الجهمية (1 / 433)
[9]) ) الرد على المنطقيين (ص: 154)
[10]) )  الإيمان قول وعمل واعتقاد , - وعليه فالكفر يقع بالقول والعمل والاعتقاد أيضاً - , ويزيد وينقص , ولذلك يتفاضل أهله فيه .
[11]) ) منهج أهل السنة إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله – صلى الله عليه وسلم – من الصفات الذاتية والفعلية , من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل . وقد تكلمنا بشيء من التفصيل عن الصفات الذاتية والفعلية ومن خالفنا في ذلك .
[12]) ) العلم صفة ذاتية لا تنفك عن الله فالله عالم منذ الأزل ولا يزال عليما , يعلم ما كان وما  سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون , وعلمه في الأزل بما سيكون من حيث الإرادة والعلم بمراده , ثم إذا أوجده علمه موجودا , وعند وجوده تكون الإرادة التامة, والإرادة مستلزمة للعلم. 
[13]) ) الله يُرى يوم القيامة, والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق , ومن توقف فهو جهمي , كما جاء عن غير واحد من السلف . والحجة في السمع (النقل), خلافا للجهمية,  وإن جاز معرفة الحسن والقبح بالعقل , خلافا للأشاعرة, وأول واجب هو توحيد الله وهو المعرفة عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة , الذين قالوا إن أول واجب هو الشك وقيل البحث والنظر – قولان عندهما - .
[14]) ) الله خالق لأفعال العباد كما قال ( والله خلقكم وما تعملون ) , وجعل للعباد إرادة حقيقية والفعل ينسب إليهم حقيقة لا مجازاً , قال تعالى : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) , ولا يكتسب الله صفاته من أفعاله , فهو خالق للعبد وأفعاله, ردا على القدرية , وجعل للعبد إرادة حقيقية فهو فاعل على الحقيقة , ردا على الجهمية, ومن تبعهم من الأشاعرة , والله تعالى أعلم .
[15]) ) المعروفة بمسألة التسلسل, فهم لا يتصورون تسلسل الحوادث لا الأزلية ولا الأبدية, ووافقهم الأشاعرة في التسلسل الأزلي, وأجازوا التسلسل الأبدي ((المستقبلي)), وخالف أهل السنة كليهما , وأثبتوا التسلسل الأزلي والأبدي, فالله لا يتعطل عن أفعاله, فلا يزال فعالاً .
[16]) )  الملل والنحل للشهرستاني (1 / 85)
[17]) ) أخرجه الطبراني في الأوسط (8/381 رقم 8938) وأخرجه أيضًا : الدارقطني (4/298) والطبراني في الصغير (2/249 رقم 1111) ((جامع الأصول للسيوطي )), وضعفه الألباني في: غاية المرام (4)، ضعيف الجامع (1597), وحسنه النووي في ( رياض الصالحين 528/1 )
[18]) ) أنظر كتاب صفات الله عز وجل للسقاف (صـ177ـ )
[19]) )
[20]) ) رواه: البخاري (2826)
[21]) ) [البقرة: 146]
[22]) ) [النحل: 78]
[23]) ) [الإسراء: 36]
[24]) ) رواه مسلم6/7(4748) 
[25]) ) ولاشك أن هذا العصر من عصور الخيرية ولكن الشيخ يتحسر على بزوغ الفتن وكثرة المبتدعة خلافا لما كان عليه الصدر الأول , والله أعلم .
([26]) ذم التأويل (ص: 23), وإثبات صفة العلو (1/124) كلاهما لابن قدامة, واجتماع الجيوش الإسلامية (1/44).
([27])[آل عمران: 7]
([28]) درء تعارض العقل والنقل (5/234)
([29])[النساء: 115]
([30])رواه ابن بطة في الإبانة أثر(69)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق