مشاهد وأنماط من
أفهام مظلمة مشوَّهة [5]
[حلقات متصلة
منفصلة]
فتنة: تغييب
المصطلحات وتمييع المعاني, وأمثلة حية مريرة(ج2)
الحمد لله وبعد:
كنا قد تحدثنا في الجزء الأول من مقالنا [ فتنة تغييب المصطلحات ] – ضمن حلقات مشاهد وأنماط –
عن فتنة عظيمة عمَّت وصمَّت كثيرَ الكثيرِ, ونجا منها قليلُ القليلِ حتى صار ذاك
القليلُ شاذا غريباً. إذا أنكر قوبل بالتسفيه والجمود والتعصب – وخصمهم أحق به – وإذا
صمَتَ. قالوا: متقوقعون لا ينفعون الإسلام, بل وتقربوا - بالتبرؤ من المتسننة -
للعلمانيين والديمقراطيين الأوائل. وقد تقدم بيان ذلك جملةً في مقالنا: [أهو أدب الخلاف أم فن الإرجاء
والإرجاف والإعتزال ] وفي المقال السابق قدمنا بمقدمة وضربنا مثالاً على فتنة
تغييب المصطلحات وتمييع المعاني, فتكلمنا عن مصطلح الفتنة ومعناها الشرعي وما غلب
استعماله عند هؤلاء فإنما بمعنى إخماد الهمم والبخل بالنفس بحجة حرمة الدماء وإن
كانت في رفع كلمة الله, فبينا زيف تلك الأفهام وسقوطها, وخيبة نظرها للواقع.
وفي هذا المقال - بإذن الله – نتابع الكشف عن تلكم المعاني الغائبة, وإن
كنا سنرجئ الكلام عن تغييب المصطلحات لمقال ومقام آخر للحاجة الملحة, ومن تلك
المعاني[ واعذروني لصعوبة المقال هذه المرة فوالله بذلت جهدا في تسهيله بل أخشى أن
أكون مقصرا لكونه طويلاً جدا وله ذيل بباب القياس وهو أكبر أبواب الأصول وأشدها, لكنه
ضروري فمصطلح هذه المرة مشهور جدا ويستعمل كثيرا لإبطال أصول الدين اعتبارا
لجزئيات ومصالح وهمية فقلت: لا يسقط الميسور بالمعسور وما لا يدرك كله لا يترك جله
]:
-
المصلحة الشرعية: ويطلق عليها البعض مصطلح (مصلحة
الدعوة) وفي عرف الأصوليين يغلب إطلاق لفظ (المصالح المرسلة) ويطلق عليها أحيانا:
(الاستدلال) أو (الاستصلاح), ( لكنهم يجعلونها ضمن المصلحة الشرعية العامة وهي
التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار نصا ولا إلغاء, وهم يريدون بذلك ألا نص منفردا
خاصا بها إنما تجيء بالتتبع والاستقراء للأدلة, وإلا فليس من حادثة إلا وهي داخلة
تحت حكم من الأحكام التكليفية الخمسة. وعرفها الخوارزمي في الكافي بأنها: [والمراد
بالمصلحة : المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد على الخلق .] البحر المحيط
للزركشي (7/ 350)
-
وفيها مسائل:
1. أنهما
كلمتان: (المصلحة) مضافة إلى (الشرعية), والمصلحة ضد المفسدة. والشرعية للدلالة
على أنها ليست بالهوى ولا بالظنون المجردة عن تتبع الأدلة واستقراء الشرع فيما
يصلح وما لا يصلح.
2. وعلى ذلك فــ[المصالح بالإضافة
إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: أحدها: ما شهد الشرع باعتباره وهو القياس.
وثانيها: ما شهد الشرع ببطلانه.
ثالثها: ما لم يشهد له بالاعتبار ولا بالإبطال نص معين] اهـ المحصول للرازي (6/ 162 والتي بعدها).
وثانيها: ما شهد الشرع ببطلانه.
ثالثها: ما لم يشهد له بالاعتبار ولا بالإبطال نص معين] اهـ المحصول للرازي (6/ 162 والتي بعدها).
3. والقياس
حجة إذا ما توافرت أركانه: المقيس – المقيس عليه – العلة الجامعة, ولابد فيها من
اعتبار الملائمة والمناسبة واعتبار الشارع لجنس الوصف في الحكم – الذي هو المقيس
عليه – وإلا لصارت من المصالح المرسلة الباطلة. كما أنه لا قياس مع النص. وهذا
المعنى متفق عليه, وإنما الخلاف في تفاصيله, واعتبار خفاء النصوص وظهورها والتوفيق
في الاستدلال والفهم.
4. أن
محل النزاع في الصنف الثالث وهو المصالح المرسلة التي لا نص عليها ويسمونها
(النوازل): وقد وقع الخلاف في العمل به – أي هذا الصنف -. قال القرافي [ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا
بالبطلان ، وهذا في محل النظر ، وهي المصالح الحاجية والتحسينية فلا يجوز الحكم
بمجردها ما لم تعضد بشهادة الأصول لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي ، وإذا اعتضد
بأصل فهو قياس] اهـ الفروق(7/ 121)
5. حرص
العلماء في العمل بهذا الباب:
·
ومن أشهر من ترك العمل به الشافعي, وما قاله في
الرسالة: [ من استحسن فقد شرع ] وقد ناظر في ذلك محمد بن الحسن الشيباني, وإنما
مقصوده الاستحسان من غير دليل شرعي واستقراء للنصوص. وينظر البحر المحيط للزركشي
(7\350 وما بعدها )
·
وقال القاضي – الباقلاني - الحجة التي نرجع إليها
في الاستحسان هي الكتاب تارة والسنة تارة والإجماع تارة والاستدلال يترجح بعض
الأصول على بعض] بدائع الفوائد (4/ 936)
·
اختيار الغزالي والبيضاوي وغيرهما تخصيص الاعتبار
– بالمصالح المرسلة - بما إذا كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية ، فإن فات أحد
هذه الثلاثة لم يعتبر, والمراد ب " الضرورية " ما يكون من الضروريات
الخمس التي يجزم بحصول المنفعة منها و " الكلية " لفائدة تعم جميع
المسلمين احترازا عن المصلحة الجزئية لبعض الناس ، أو في حالة مخصوصة] المصدر
السابق.
·
وقال ابن دقيق العيد : لست أنكر على من اعتبر أصل
المصالح، لكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر شديد ربما خرج عن الحد
المعتبر .] البحر المحيط (7/ 355)
·
وهنا كلام جامع لشيخ الإسلام ولولا خشية الإطالة
لأوردته كله قال – بعد أن ذكر طرق تناول العلماء واستعمالهم للمصالح المرسلة
والاستحسان – [والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط بل الله تعالى قد أكمل
لنا الدين وأتم النعمة فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله
عليه و سلم وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك لكن ما
اعتقده العقل مصلحة وان كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له إما أن الشرع دل
عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة لأن المصلحة هي
المنفعة الحاصلة أو الغالبة وكثير ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع فى الدين والدنيا
ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة كما قال تعالى: فى الخمر والميسر[ قل فيهما إثم
كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما]] مجموع الفتاوى (11/ 344), وفي تفسير
تلك الآية كلام عظيم للطبري يرجى مراجعته.
·
قال الزركشي في الاستحسان: [وهذا مردود ، لأنه
قول في الشريعة بمجرد التشهي ، ومخالف لقوله تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء
فحكمه إلى الله } لكن الحنفية ينكرون هذا التفسير لما فيه من الشناعة . ] البحر
المحيط (7/ 372)
·
قال القرافي [ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا
بالبطلان ، وهذا في محل النظر ، وهي المصالح الحاجية والتحسينية فلا يجوز الحكم
بمجردها ما لم تعضد بشهادة الأصول لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي ، وإذا اعتضد
بأصل فهو قياس] اهـ الفروق(7/ 121)
6. أمثلة
ضربها الأصوليون على المصالح المعتبرة والملغاة:
-
مثال المعتبرة:
i. قال
ابن تاج الشريعة بعد نقله اختيار الغزالي: [ كما لو تترس الكفار بجمع من المسلمين
ونعلم أنا لو تركناهم استولوا على المسلمين وقتلوهم ولو رمينا الترس يخلص أكثر
المسلمين فتكون المصلحة ضرورية ؛ لأن صيانة الدين وصيانة نفوس عامة المسلمين داعية
إلى جواز الرمي إلى الترس] شرح التلويح على التوضيح (3/ 142).
ii. قال
ابن القيم: [وأجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوى على الجهاد وفعله وأفتى به لما
نازل العدو دمشق في رمضان فأنكر عليه بعض المتفقهين وقال ليس سفرا طويلا فقال
الشيخ هذا فطر للتقوى على جهاد العدو وهو أولى من الفطر للسفر يومين سفرا مباحا أو
معصية والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم وربما أضعفهم
الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة ألإسلام وهل يشك فقيه أن الفطر ههنا أولى من
فطر المسافر وقد أمرهم النبي في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا على عدوهم فعلل ذلك
للقوة على العدو لا للسفر والله أعلم] بدائع الفوائد (4/ 846) لم نسمع إلا بالجواز
لللاعبين.!
-
مثال الملغاة:
i. قال
فخر الرازي في معرض كلامه عن أنواع المصالح المرسلة الباطلة: [وثانيها: ما شهد الشرع ببطلانه. مثاله: قول
بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أُنْكِرَ
عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ولاستحقر إعتاق رقبة
في قضاء شهوته. واعلم أن هذا باطل لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى لمصلحة تخيلها
الإنسان بحسب رأيه ثم إذا عرف ذلك من جميع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم
وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي.] اهـ المحصول (6/ 162 والتي
بعدها). وهي مسألة التترس المعروفة وكتب ابن تيمية مليئة بهذا المعنى لكن ذكرنا
كلام الغزالي للتنويع.
ii. قال ابن دقيق العيد: [ وقد
نقلوا عن عمر رضي الله عنه أنه قطع لسان الحطيئة بسبب الهجو فإن صح ذلك فهو من باب
العزم على المصالح المرسلة وحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على حقيقة
القطع للمصلحة وهذا يجر إلى النظر فيما يسمى مصلحة مرسلة قال وشاورني بعض القضاة
في قطع أنملة شاهد والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها وكل هذا منكرات عظيمة الموقع
في الدين واسترسال قبيح في أذى المسلمين انتهى] إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 78)
7. أقسام
المقصود من شرع الحكم واختلاف مراتبه:
المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات، وهي أعلى مراتب المناسبات.والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الوقوع والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة.:
أما حفظ الدين فبشرع قتل الكافر المضل وعقوبة الداعي إلى البدع.
وأما حفظ النفوس: فبشرع القصاص.
وأما حفظ العقول: فبشرع الحد على شرب المسكر.
وأما حفظ الأموال: التي بها معاش الخلق، فبشرع الزواجر للغصاب والسراق.] الأحكام للآمدي (3/ 274) وانظر للفائدة: (المحصول للرازي 5\220) وأنوار البروق للقرافي [7\112] والبحر(7\129)
المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات، وهي أعلى مراتب المناسبات.والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الوقوع والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة.:
أما حفظ الدين فبشرع قتل الكافر المضل وعقوبة الداعي إلى البدع.
وأما حفظ النفوس: فبشرع القصاص.
وأما حفظ العقول: فبشرع الحد على شرب المسكر.
وأما حفظ الأموال: التي بها معاش الخلق، فبشرع الزواجر للغصاب والسراق.] الأحكام للآمدي (3/ 274) وانظر للفائدة: (المحصول للرازي 5\220) وأنوار البروق للقرافي [7\112] والبحر(7\129)
8. أن هذه المراتب تقدم على غيرها
وأنه يقدم الدين على غيره, قال ابن الهمام الحنفي[ والضرورية على الحاجية والدينية
منها على غيرها ) قال ابن الأمير – تلميذه - أي وإذا تعارضت أقسام من المناسب رجحت
بحسب قوة المصلحة فرجحت المقاصد الخمسة الضرورية التي هي حفظ الدين والنفس والعقل
والنسل والمال على ما سواها من المقاصد الحاجية وغيرها] التقرير والتحبير لابن
الأمير الحنفي (5/ 472)
9. وأخيرا:
تطويع الناس ودفعهم للاستسلام له هو أصل هذا الدين بل الإسلام لا يقوم إلا على قدم
الاستسلام كما قال الزهري وغيره من السلف وفي الحديث [ إنك تقدم قوما أهل كتاب
فليكن أول ما تدعوهم إليه توحيد الله فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم
خمس صلوات في اليوم والليلة ] أخرجاه, وهذا لا يخفى إخواننا.
المصلحة الشرعية:
هي إذعان الناس لتوحيد رب العالمين والاستسلام التام له
والخضوع والذل له – جل في علاه – وليس لدين الديموقراطية.
أسئلة على المقال:
أي مصلحة ترجى في تطويع الناس لحكم الشعب؟ حتى صار
الحاكم والمحكوم هو الشعب, وأي شعب؟ (إن الحكم إلا للشعب)؟!
وهل حفظ النفس: هو ترك المسلمين أسرى وترك البلاد تغتصب
في سبيل حفظ البقية؟ وكلما اغتصبت أرض صار تركها واجبا لحرمة دماء البقية؟ فلماذا
الخوف على الآمنين دون التحريض على فك الأسر؟
خاتمة:
هل التوافق في الصور المجردة من الاستسلام التام التابع لإعلاء
كلمة الله يسمى إسلاما؟
سؤال: لا يحتاج إلى مقال ... فهو أصل الدين ... ولكن
أكثر الناس لا يعلمون.
ـــــــــــــــــــــــــ
انتهى وعذرا للإطالة.
والحمد لله رب العالمين.
أبو صهيب الحنبلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق